الدكتور بليغ حمدي إسماعيل
رحم الله أيام المدرسة الإبتدائية التي كنا نتناول فيها أقراص الدروس والموضوعات بغير تأويل أو تثوير للمادة المقروءة، تلك الأيام والساعات الطويلة والبعيدة التي كنا وغيرنا نمارس فعل القراءة بغير جهد أو اجتهاد، مع مزيد من الصبر في تجرع المعارف والمعلومات واجترار البيانات والحقائق التي لم نفطن ساعتها أنها تشارف اليقين أم أنها تغالي في الزيف والخداع. ورغم أن تلك الأيام كنا نتداول فيها ما سطره عميد الأدب العربي من فكر ورأي تثير إعمال العقل، وكذا أبيات أمير الشعراء أحمد شوقي التي تصف تارة، وتسرد تارة أخرى لتثير في نفوسنا كافة مظاهر الإعجاب والانبهار بالنص وصاحبه إلا أن كليهما ـ طه وشوقي ـ لم يستهدفا إعمال عقولنا عن طريق المعلم أو الكتاب أو البيئة المدرسية، وإن شئت فقل المناخ التعليمي بوصفه أرسخ ظاهرة ثقافية عرفتها البشرية.
وهذه المقاربة التلقينية لم تختلف عن مثيلتها في تلقي القصص والروايات القصيرة التي كنا وربما يزال أبناؤنا أيضًا يتدراسونها بكثير من التلقي السلبي ومزيد من حالات غياب إعمال الذهن وعملياته في تأويل أحداثها، بل لن أغادر مكان القول بالتأكيد أن تدريس النصوص القصصية في زماننا كان ينتهي بابتسامة أو باقتضاب صوب بطل القصة أو بطلتها، أو بموت قائد أو الغدر به على يد أحد أعوانه، هكذا كان المشهد يسير كما تسير أحداث المسرحية على الخشبة وسط التصفيق أو الامتقاع أو إسدال الستار إيذانًا وإعلانًا بالنهاية رغم أنف الحضور.
هذه التقدمة كفيلة بتوصيف المشهد التعليمي الثقافي الراهن لا من حيث رصد مشكلاته المزمنة بل التأكيد على ضرورة البحث عن منافذ معرفية تحث على إعمال العقل وإمعان النظر الذهني التأويلي في المعارف التي تطرح على قارعة الفصول الدراسية في مدارسنا العربية.
وفي صدد الاهتمام بالتعليم والتربية القرائية، أصبحت تربية الطفل أمرًا يتعلق بمستقبل الشعوب وتطورها، وذلك باعتبار الطفل نواة التقدم لمواكبة عصر التغير المتسارع نحو التنمية والرخاء، ولعل النصف الأخير من القرن الحالي كان بداية فعلية للاهتمام بالطفل والطفولة، وتمثل ذلك بإعلان الجمعية العامة للأمم المتحدة حقوق الطفل عام 1959م، وإعلان عام 1979م عامًا عالميًا للطفل وفيه تم التأكيد على ضرورة أن تؤمن للطفل الحماية ضد كافة أنواع الإهمال والقسوة والاستغلال وأن يحمي ضد أية تصرفات قد تعرضه في المستقبل لأي نوع من أنواع الإحباط. وإذا كان هذا الاهتمام، وهذه الحماية، موجهين إلى الطفل عامة، لا فرق في ذلك بين سوي ومعاق، فإن المعاقين من الأطفال أشد حاجة لمثل هذا الاهتمام.
وقد تناول كثير من الباحثين موضوع القراءة كعملية عقلية وحاولوا تعريفها، وقد تراوحت التعريفات بين التعريف الأولي الذي يرى في القراءة عملية ميكانيكية أو فك رموز، أي ترجمة الرمز المكتوب إلى صوت، والتعريفات التي ترى في عملية القراءة عملية عقلية مركبة وذات شكل هرمي يرتبط بالتفكير بدرجاته المختلفة، بحيث إن كل درجة تفكير تعتمد على ما تحتها ولا تتم بدونها. ويرى جيبسون أن القراءة عملية اتصال واستجابة لرموز مكتوبة وترجمتها إلى كلام وفهم معناها. بينما يرى دشنت أن عملية القراءة عملية تتعدى فك الرمز وتهجئة الكلمات المطبوعة، وهي عملية تهدف إلى الوصول لمعنى المادة وفهمها ومن ثم تداخل القارئ بالمادة وتحليلها وعمل إسقاطات ذاتية عليها. أي إن القراءة عملية موضوعية من حيث إدراك معنى المادة، وعملية ذاتية من حيث التفاعل معها وتحليلها واستخلاص نتائج منها.
ولكن القراءة الحقيقية تبدأ من اللحظة التي يحول فيها القارئ تحويل الرموز إلى أصوات. والقراءة على هذا الأساس هي عملية معقدة تشمل تقييم القارئ للكلمات وعلاقتها مع بعضها في الجملة وقبول معنى ورفض معنى آخر، وتتداخل فيها قدرات عقلية مختلفة وتتأثر بمعطيات داخلية تتصل بالقارئ، وعوامل خارجية تتصل بالنص والظروف المحيطة، وجميع ذلك يؤثر على صورة الاستجابة النهائية للمادة المقروءة، وعليه فإن القراءة تشتمل على جميع مقومات التفكير.
إذن فعملية القراءة - كأداء معرفي- تعتبر عملية متكاملة تمر بمجموعة مستويات، تبدأ بالاكتشاف أو التحري الأول وأحيانًا يسمى الانطباع الأول، ثم مرحلة الاستنطاق التي تعمل على تحليل البنى الداخلية وتفكيكها لتمهد للقراءة التأويلية في إعادة تشكيل الوحدات المعرفية إلى منتج نهائي يصف سلوك ودوافع النص المكتوب.
ولقد تعددت تعريفات التعويق القرائي وفقًا للمنظور المعرفي والنفسي صوب الظاهرة نفسها، ومن هذه التعريفات ما ترى أن التأخر القرائي هو أن ليس الأطفال سواء في قدرتهم على القراءة، فمنهم الأقوياء، ومنهم المتوسطون، ومنهم الضعفاء المتأخرون. وهؤلاء في نمو قدراتهم على القراءة لا يسايرون نمو أعمارهم الزمنية، بل لكل تلميذ عمره القرائي الخاص به، فقد يكون عمره الزمني 12 سنة، على حين لا يزيد عمر القراءة عنده على ثماني سنوات.
ويعرف الطفل المتخلف في القراءة بأنه كل طفل يكون تحصيله القرائي أقل من تحصيله في باقي المواد الدراسية الأخرى، ومن مستوى ذكائه العام بمقدار سنة ونصف السنة، كما يعرف بأنه الطفل الذي تقل درجاته في اختبارات القراءة المقننة من سنة إلى ثلاث سنوات فأكثر عن متوسط الدرجة التي تناسب عمره الزمني أو العقلي. والمتأخر قرائيًا هو الشخص الذي يظهر في استجاباته القرائية والتعليمية تأخر ملحوظ ونموه القرائي خارج الخط العام لمن هم في مثل نموه ، وكانت إمكانياتهم التعليمية وعدل نموهم الشخصي القرائي أكثر من تحصيله.
وأسباب التعويق القرائي لدى ذوي الاحتياجات الخاصة متعددة ومتنوعة، فهي كثيرة ومتنوعة ولا شك أن بعض هذه الأسباب يرجع إلى المعلم، وبعضها يرجع إلى الكتاب المدرسي المقرر على هذه الفئة، ومن الصعوبة بمكان قصر أسباب التعويق القرائي وتأخره إلى عامل واحد من هذه العوامل، فهي تعمل مجتمعة، وتتكامل فيما بينها.
ويمثل الكتاب أهمية كبرى في جذب التلاميذ للقراءة، وقد أسهم إسهامًا في تخلف التلاميذ في القراءة على نحو كبير، مثل سوء اختيار موضوعات القراءة ورداءة إعدادها وعدم الاهتمام بحسن إخراج الكتاب من ناحية الصور والطباعة وحجم وشكل الحروف وجودة الورق والغلاف والتنسيق. كما تعد الأحوال البيئية والاجتماعية أحد أسباب التعويق القرائي لدى ذوي الاحتياجات الخاصة، مثل كثرة غياب التلاميذ وعدم اقتناع أولياء الأمور بذهابهم إلى المدارس المتخصصة لهم.
والقراءة ليست هدفا إنما وسيلة التعليم الأولي، وأصبح العالم ينظر للقراءة بنفس الأهمية التي ينظر بها للكلام والمشي، والذي يقرأ ويفهم ما يقرأ في سرعة يمكنه أن ينجز من الأعمال أضعاف ما ينهي القارئ العادي.
وتعتبر القراءة وفقًا لقانونها الأول الجديد أساس التعليم ووسيلته الأولى، والفرد القارئ فرد نامٍ وقادر على استمرار النمو؛ فالقراءة تجعل العقل يستجيب استجابة دقيقة واعية للكلام المطبوع، وهي السبيل للاتصال بعالم الآخرين، واكتساب معارفهم وخبراتهم التي تجعله قادرًا على العيش بفكر ناضج رحب، كما تكسبه القدرة على التعبير عن نفسه. كما أن القراءة ليست هدفًا في حد ذاتها، وإنما هي الوسيلة الأولى للتعلم والمعرفة والتفاعل الإيجابي، خاصة إذا ما اعتمد الأهل صيغة دائمة للتفاعل الإيجابي مع الطفل من خلال القراءة بالمناقشة والتحليل، وتبادل الرأي والتعليق على ما يقرؤه الطفل. وقد تكون هذه الإيجابية والتفاعلية هدفًا في حد ذاتها؛ حيث أصبحت صفة معبرة عن قدرة الفرد على التعايش والنمو، وهذه المعرفة والتفاعل لن يكونا بغير قراءة.
عدسة: لم يحاكم مبارك بتهمة دعم جماعة الإخوان وتضخم ثرواتها.
|