التعليم تسارع وتصارع أيضا ! |
الدُّكْتُورُ بَلِيغ حَمْدِي إسْمَاعِيل |
مشروعات كثيرة متميزة تقام على أرض مصر المحروسة، وفعاليات من شأنها أن تغير شكل الحياة ووجهها في مصر من خلال توجيهات رئاسية مباشرة من الرئيس عبد الفتاح السيسي الذي يسعى أن يجعل مصر دولة متقدمة تنافس لا من أجل البقاء بل من أجل الريادة والارتقاء. والمشروعات التي تقام في مصر ليل نهار ونرى إحداثياتها عبر شاشات الفضائيات كفيلة بأن تجعل المواطن المصري في حالة فخر وزهو بما يتحقق، وتجعله يحلم بالمزيد من ينابيع الخير التي تتفجر يوميًا.
لكن يظل التعليم هاجسًا يؤرق ملايين المصريين رغم كونه يمثل الشعار الأبدي كالماء والهواء، لكن المصريون مهمومون بواقع التعليم أكثر فأكثر وهذا ما يجعل ملايين أولياء الأمور وليس فقط خبراء التعليم أكثر متابعة واتصالاً بالمشهد التعليمي قد أبالغ لو قلت أكثر من القائمين على العملية التعليمية نفسها حرصًا منهم على أن التعليم هو استثمار العمر وليس مجرد سنوات دراسية تتخللها اختبارات إلكترونية وورقية وسياسات تعليمية متغايرة وربما مضطربة أيضًا.
ورغم معاناة الكثير من الظروف الاقتصادية والاجتماعية التي تعتري حياة الأسر المصرية على وجه الاختصاص والشعوب العربية بوجه عام إلا أن التعليم يظل طوق نجاة أخير لهم؛ لما يحققه من تغييرات جذرية بحياة الإنسان ونظرًا لتعقد الحياة المعاصرة التي تتطلب امتلاك قدر كبير من المعرفة. هذا التعلق المحمود هو الذي يدفع الحكومات إلى الاهتمام بالتعليم وجعله أول اهتمامات الدولة من أجل تحقيق أعلى قدر ممكن من السيادة والتفوق والتقدم.
ولقد عقدت فعاليتان اقتصرتا على الشأن التعليمي لاسيما استشراف المستقبل التربوي وتوصيف راهن المشهد التعليمي بالعالم العربي ومصر وقطر على وجه التحديد. ولقد جاءت الفرصة سانحة لدولة قطر العربية كي تستبدل مصطلح العولمة بالعوربة، وربما سيتغير المصطلح بعد فترة ليست بالقصيرة من الزمن إلى القوطرة نسبة إلى قطر، كل هذا جاء من حق استضافة دولة قطر لنهائيات كأس العالم لكرة القدم في عام 2022م، وليس بغريب على قطر استضافة مثل هذا العرس الرياضي، فهي من قبل أقامت بطولات دولية عالمية في أكثر من لعبة غير كرة القدم.
أما بالنسبة للحدثين التعليميين فكانت الفعالية الأولى مؤتمر القمة العالمي للابتكار في التعليم والتي نظمتها مؤسسة قطر، حيث تم إطلاق مؤتمر القمة العالمي للابتكار في التعليم (وايز) في العام 2009 بمبادرة من مؤسسة قطر للتربية والعلوم وتنمية المجتمع، ووفقًا للمؤشرات التعليمية المهنية العالمية يُعد هذا المؤتمر واحدًا من أهم المنتديات العالمية التي تتناول الابتكار في التعليم، فهو يجمع الكثير، ممارسين وأصحاب القرار التعليمي وقادة الفكر من قطاعات مختلفة، بالإضافة إلى مشاركة أكثر من مئة بلد. ويبحث مؤتمر القمة (وايز) كل عام في التحديات التعليمية الراهنة.
ولاشك أن هذا المؤتمر اهتم في مناقشاته بالبعد الكوني للهموم التعليمية المشتركة مثل الإبداع والابتكار والتفوق في مجالي العلوم والرياضيات، بالإضافة إلى نهضة الأمم بلغاتها الأصلية والمحافظة على هوية اللغات القومية لكل بلد. أما نحن فالأمور والظواهر التعليمية مازالت مختلفة، فالتسرب التعليمي في ازدياد خطير، والمحافظون يعلقون تجديد عقود المعلمين على محو أمية المواطنين في عصر أطلق عليه عصر الانفجار المعرفي أو مجتمع المعرفة، ونحن لازلنا نناقش مشكلة الأمية.
ولعل قطر التي راحت بنتائج مؤتمر (وايز) تشير إلى ضرورة التعددية وحق الاختلاف وتكريس روح التسامح العلمي، تنتهز هذه الفرصة انتهازًا شرعيًا بأن تنقل للعالم كله روح الثقافة الكونية بوجه خاص، والهوية العربية بوجه عام. فإذا كان مفكرو هذا العصر ورواده التنويريين قد فشلوا فشلاً ذريعًا منذ فوز الأديب العالمي نجيب محفوظ في نقل رائحة الثقافة العربية ونكهتها الشرقية الخالصة، فإن الدور الآن عظيم وجليل على الدول العربية، فأصبح منوط بها استنطاق الثقافة والهوية العربية من أقدام اللاعبين المتنافسين قفزًا صوب الثقافة العربية الأصيلة، من خلال برامج الدعاية والإعلان، ووسائل الإعلام المختلفة.
ولعل أبرز ما جاء في مؤتمر الابتكار في التعليم هو رصد هذا الجموح والتسارع بل والاستباق المعرفي والتطبيقي لمجالات القيادة التربوية ونظم التعلم، وفرص التعليم للرياضيين، وسياسات تدريس اللغات، وأخيرًا الذكاء الاصطناعي، وهذا أبرز ما يميز منتدى (وايز التعليمي) حيث تشمل كافة الأبحاث التداعيات العملية لصانعي السياسات والباحثين والممارسين لكيفية توظيف الذكاء الاصطناعي في عملية التعليم، هذا الميدان الذي استحال في لحظات إلى مؤشر عاكس لطبيعة تقدم وتطور المؤسسات التعليمية، وربما جاءت المداخلات والمساجلات العلمية الهادفة وأوراق العمل بالمؤتمر كجرس إنذار لمعظم السياسات التعليمية الراهنة بالوطن العربي بضرورة الأخذ بتطبيقات الذكاء الاصطناعي في التعليم من أجل إعداد وتأهيل متعلم قادر على المشاركة وليس مجرد البقاء، وتحويله. المستهدف من التعليم. من متلق سلبي إلى فاعل وصانع للقرار التربوي، لذا وكما تشير مؤسسة قطر إلى أن أبحاث مؤتمر الابتكار في التعليم والمناقشات التي دارت في أثنائه أصبحت خلال الأعوام الماضية منصة مهمة للأبحاث الأصيلة عن أكثر تحديات التعليم إلحاحًا في القرن الحادي والعشرين فضلا عن أن المؤتمر بفعالياته المتنوعة يشجع بصورة مستدامة إجراء وتدشين مشروعات ومبادرات وسلسلة من الأبحاث الأكاديمية التي تتم بالشراكة مع مجموعة مرموقة من الباحثين وقادة الفكر والممارسين من حول العالم ليس فقط لمناقشة أبرز الموضوعات الراهنة في التعليم، بل لسد الفجوة بين النظريات والسياسات والتطبيق، وإيجاد حلول جذرية ناجعة لكافة المشكلات التي تواجهها المؤسسات التعليمية.
ولكن تظل المشكلة المستدامة قائمة وراهنة ونحن بصدد الحديث عن تطبيقات الذكاء الاصطناعي في المؤسسات التعليمية وإدخال إحداثياتها بصورة صادقة في سياساتنا التعليمية لاسيما وأن كثيرًا من ملامح المشهد التربوي تظل عقبة كبيرة في وجه هذا التحول الكوني، ليس فقط الطالب غير المستعد أو المؤهل، بل المشكلة الرئيسة في طبيعة النظام التربوي الذي لم يخرج بعد عن فلك النمطية والسلطوية العميقة التي باتت متغلغلة ويصعب الفكاك من شراكها حيث اعتاد النظام التعليمي، أي نظام، أن يسير وفق منظومة رأسية وليست أفقية الأمر الذي يبعد عناصر كثيرة من عناصر المنظومة عن المشاركة الفاعلة مثل أولياء الأمور والمنظمات المجتمعية على سبيل المثال، فضلاً عن الغياب المطلق والتاريخي لرجال الأعمال المهمومين بالدخول غير الربحي في العملية التعليمية.
فربما تبدو ظاهرة دخول رجال الأعمال في مجال التعليم ليست بالجديرة في ظل اهتمام بعضهم وليس الكل بإنشاء مؤسسات تعليمية تحت مظلة أجنبية تحقق الربح المادي في المقام الأول من ناحية، وقد تُبعد المتعلم العربي عن روافد هويته الحقيقية والأصيلة من ناحية أخرى.
والفعالية الثانية كانت في مصر، حيث عقد وزارة التعليم العالي المصرية المنتدى العالمي للتعليم بمشاركة جامعات عالمية ومؤسسات تعليمية متنوعة ومتباينة استهدفت رصد واقع التعليم العالي في مصر، واستشراف مستقبل التعليم، لكن اختلف المشهد قليلاً عن مؤتمر (وايز) حيث أبرز المنتدى المصري التحديات التي تواجه الأنطمة التعليمية والسياسات المحلية عقب جائحة كورونا والتي لاتزال قائمة دون أي تحول علمي حقيقي في المواجهة ليس في مصر رغم تعدد الأبحاث والدراسات الأكاديمية والتطبيقية لمواجهة الفيروس اللعين بل في العالم كله الذي يقف عاجزًا حتى الآن في التحكم الفعلي لمواجهة الجائحة.
والمنتدى المصري العالمي للتعليم جاء رد فعل مباشر لما أوصى به الرئيس عبد الفتاح السيسي بضرورة إصلاح التعليم في مصر، والاهتمام بالارتقاء بالمنظومة التعليمية وتطوير السياسات التعليمية باعتبار أن التعليم هو العامل الأساسي لبناء الإنسان المعاصر ليس فقط الذي يواجه تحديات عصره، بل المواطن الذي يبحث ويكتشف وينتج ويبتكر.
لذلك جاء المنتدى مستهدفًا البحث عن حلول حقيقية للابتكار في التعليم العالي، وإن الاستثمار الحقيقي والاقتصاد النفعي هو الذي يباشر المشهد التعليمي وخلق فرص حقيقية للابتكار والإبداع، ولقد أشار البيان الختامي للمنتدى إلى أن الاستثمار في العلوم والتكنولوجيا والابتكار، أصبح ضروريًا للتكيف مع الثورة الصناعية الرابعة والخامسة، ما سيساعد في توفير فرص لوظائف جديدة، ووجد أن التحفيز على نظام التعليم، مُتعدد التخصصات والبحث العلمي، هو المُحرك الرئيسي، لاستقرار المجتمع، والنمو الاقتصادي، وخصوصًا العلوم الأساسية مثل الفيزياء والرياضيات، وتأكيد أن ضمان الجودة وتوحيد المعايير، سيلعبان دورًا في التعاون الإقليمي والدولي، في مجالات التعليم والعلوم والتكنولوجيا والابتكار.
ووجود حركة بطيئة للترجمة، مع تزامن عقدة التخطيط الصفري التي أشرنا إليها منذ قليل، يجلعنا نقف أمام ظاهرة تربوية عربية وهي تقليدية الإدارة، فإذا كان القرار التربوي الفوقي في بعض الأنظمة التعليمية العربية لا يهتم بفكرة التخطيط للمستقبل أو جماعية اتخاذ القرار، فإن الإدارة التنفيذية التي تدير المشهد التعليمي على مستوى المدرسة تتسم بالتقليدية وغياب الحضور عن الاستخدام الإلكتروني، والاستخدام الإلكتروني لا يعني أن المدرسة بها معمل يشتمل على كثير من أجهزة الحاسوب المتطورة فالأمر لا يتعد حد الاستخدام والاستهلاك لا الإنتاج أو تطوير التقنية ذاتها. لكن الإدارات التربوية المعاصرة تطبق اليوم فكر الإدارة إليكترونيًا وتسعى لربط المؤسسة التعليمية بالطلاب والمجتمع والمؤسسات ذات العلاقة بالتربوية عن طريق شبكة معلوماتية متخصصة تسهم في رفع الوعي المعلوماتي والمهاري لدى العاملين بالمدرسة وبالتلاميذ وتجعل شركاء المجتمع على علاقة وطيدة بإحدى المؤسسات الوطنية ألا وهي المدرسة.
ويظل السؤال الأكثر دهشة بعد كل فعالية علمية تُدشَّن على أرض الوطن العربي: ثم ماذا بعد؟، وهذا السؤال هو أكثر أهمية وضرورة من عقد كل ملتقى علمي أو اجتماع أكاديمي متخصص لأن ثمة التوصيات التي يمكن الخروج بها من اللقاءات العلمية التعليمية هي بمثابة مبادرات قابلة للتنفيذ إن صَحَّ التشخيص والتوصيف.
فلن يتم أي تغيير أو تطوير بالمؤسسات التعليمية وبالأحرى السياسات التربوية إذا لم يتم تغيير سريع وقوي دون تأخر أو تردد في وضع تصورات جديدة لنماذج عمل المدارس ونظمها، ودعم تغيير الثقافة المدرسية عبر إحداث التحول في أسلوب تعاون التربويين، ودعم الطلاب لاكتساب مهارات القرن الحادي والعشرين. هكذا كما جاء في كل من الفعاليتين التعليميتين بقطر ومصر ، وهنا تجدر الإشارة السريعة للتقرير العلمي الرصين الموسوم "بفكر واعمل كمصمم: كيف يدعم التفكير عبر التصميم الابتكار في التعليم من مرحلة الروضة حتى الصف الثاني عشر، والذي قام بإعداده كل من أنيتى ديفنتالا، وساندي سبيتشر، ولورا مورهيد، وديردري سيرمينارو، وشارلا بير، ويستكشف التقرير دور التفكير عبر التصميم في وضع تصورات جديدة لنماذج عمل المدارس ونظمها، ودعم تغيير الثقافة المدرسية عبر إحداث التحول في أسلوب تعاون التربويين، ودعم الطلاب لاكتساب مهارات القرن الحادي والعشرين.
فضلاً عن أن التقرير يستقصي المجالات والأساليب التي يمكن من خلالها تطبيق التفكير عبر التصميم على أرض الواقع في عالمنا اليوم. ففي حين أن الاهتمام بتطبيق التفكير عبر التصميم في مراحل التعليم من الروضة وحتى الصف الثاني عشر قد شهد نموًا كبيرًا على مدار العقدين الماضيين، لا يزال ثمة افتقار إلى الارشادات وأفضل الممارسات والتطوير المهني اللازم لإنجاح تطبيق نموذج التفكير عبر التصميم. ومن خلال دراسة البحوث والممارسات الحالية، يسهم هذا التقرير في سد هذه الفجوة من خلال عرض مجموعة من الممارسات القائمة على التفكير الاستشرافي من مختلف دول العالم، إذ يبرز التقرير سبل الاستفادة من التفكير عبر التصميم في ثلاثة مجالات، ألا وهي وضع تصورات مبتكرة كليًا لنماذج عمل المدارس ونظمها، ودعم تغيير الثقافة المدرسية عبر إحداث التحول في أسلوب تعاون التربويين، ودعم جهود مساعدة الطلاب في اكتساب مهارات القرن الحادي والعشرين. ويعتمد التقرير في توضيح هذه الموضوعات على عدد من المقالات القصيرة وكذلك دراسات الحالات الطويلة، ويختتم بإصدار مجموعة من التوصيات لصناع السياسات والممارسين والباحثين الأكاديميين. |
|