هل لا يزال الكتاب سيد المعرفة؟ |
مدحت بشاي |
أما وقد باتت الثقافة شفويَّة آلية مرتبطة بالشاشة، فقد تراجع دور اليد التي تكتب واللسان الذي يقرأ لصالح العين والأذن، فضاع استعمال جميع الحواس في التثقيف، وحين يحدث ذلك يضيع الفؤاد والعقل المتكامل والوجدان المحتوي..
نعم، نعيش زمن أزمة الثقافة لأننا نعيش أزمة إنتاج الكتاب (كمًا وكيفًا)، فغاب القارئ المثقف (الأعداد والنوعية)، رغم ما يتم بذله من جهود حكومية يراها أصحاب القرار هائلة ويراها المثقف ضئيلة ومتراجعة في زمن بات فيه رغيف الخبز الثقافي والتنويري والتوعوي لا يقل أهميةً عن رغيف خبز التموين..
وعليه، كان الرصد الرائع لأبعاد أزمة الكتابة والقراءة من جانب الكاتب والمفكر البديع د. ثروت صموئيل، مدير تحرير جريدة "الطريق والحق"، في مقاله الافتتاحي في العدد الأخير "هل أصبحنا أمة لا تقرأ؟"..
والمقال يأتي بمناسبة الاحتفال باليوم العالمي للكتاب.. ونعرض في إيجاز لأهم الأرقام الصادمة في المقال:
عدد الإصدارات للكتب المنشورة في مصر عبر دور النشر المعترف بها عن عام 2021 بلغ 1743 كتابًا مقارنةً بعدد 1827 كتابًا صدر في عام 2020 (وفق إعلان الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء)..
وبالمقارنة الصادمة (كمثال)، الدنمارك نشرت العام الماضي حوالي 14 ألف كتاب، وفرنسا 16 ألف كتاب، والولايات المتحدة الأمريكية 275 ألف كتاب، والصين 289 ألف كتاب.
وبحسب "تقرير التنمية البشرية" للعام 2003 الصادر عن اليونسكو، يقرأ المواطن العربي أقل من كتاب بكثير، فكل 80 شخصًا يقرأون كتابًا واحدًا في السنة. وفي المقابل، يقرأ المواطن الأوروبي نحو 35 كتابًا في السنة، والمواطن الإسرائيلي 40 كتابًا.
وجاء في "تقرير التنمية الثقافية" للعام 2011 والصادر عن "مؤسسة الفكر العربي" أن العربي يقرأ بمعدل 6 دقائق سنويًا بينما يقرأ الأوروبي بمعدل 200 ساعة سنويًا.
وبحسب تقرير اليونسكو، يُترجَم سنويًا في العالم العربي خُمس ما يُترجَم في دولة اليونان الصغيرة. والحصيلة الكُلية لما تُرجم إلى العربية منذ عصر الخليفة العباسي المأمون إلى العصر الحالي تقارب الـ 10000 كتاب، وهذا العدد يساوي ما تترجمه إسبانيا في سنة واحدة. وفي النصف الأول من ثمانينيات القرن العشرين، كان متوسط الكتب المترجَّمة لكل مليون مواطن، على مدى خمس سنوات، هو 4.4 كتاب (أقل من كتاب لكل مليون عربي في السنة) بينما في المجر كان الرقم 519 كتابًا لكل مليون، وفي إسبانيا 920 كتابًا لكل مليون.
وأكتفي بتلك المؤشرات في المقال، والتي أراها كافية لتقديم بلاغ مواطن مثقف إلى مَنْ يهمه أمر صناعة الكتاب وأمر الثقافة المصرية التي أراها بمثابة الحجاب الواقي من تداعيات حرب أهل التخلف وما ينشرون وما يكرسون من مفاهيم بالية في الشارع المصري!!
وهل لنا أن نسأل حول ما تشير إليه الإحصائيات التي تؤكد أن الثقافة المحصَّلة من القراءة بالنسبة للمواطن الأوروبي تعادل ما يحصَّله 2800 مواطن عربي؟!!
أعتقد أن نظم الأداء في مؤسساتنا التعليمية والعلمية تشكِّل أحد أسباب عدم الإقبال على القراءة، عبر مناهج وطرق تدريس ومعلم لا يدفعون في اتجاه تنمية الإبداع والابتكار والبحث والنقد الحر والحوار المستنير والتحري والتدقيق والتجريب والاستنتاج..
كما أننا أمام أسرة لا تساهم بشكل حقيقي وفاعل في إقامة جسور تواصل للطفل مع بيوت الإبداع والتثقيف والتنوير.. معارض الفنون التشكيلية وقاعات العزف الموسيقي وندوات الشعر وأهل الثقافة والإبداع في كل صوره ومنتجاته الفكرية...
تسود تلك الحالة من عزل أولادنا عن محيطهم الثقافي، بينما نتابع ذلك الزحف المجنون والمتدافع لوسائل التواصل الحديثة التي تحولت إلى وسائل للانفصال الاجتماعي، وليس للتواصل الاجتماعي، ولم يتم التعامل مع الزاوية الإيجابية لتلك الوسائل في دعمها لحرية التفكير وتشكيل خصوصية لمستعمليها محفِّزة للإبداع..
قد يبدو أن أزمة الكتاب وقضية حال القراءة والقارئ يمكن معالجتها بقرارات فوقية بالدفع في اتجاه الجانب الكمي بزيادة الإصدارات ودعم سبل النشر، ولكن الأزمة في عمقها أزمة ثقافية مستعصية على العلاج السريع، ولها علاقة مباشرة بوعي المواطن، وبقدرته على أن يكون مواطنًا فاعلًا في مجتمعه ووسط ناسه، محصَّنًا بزاد ثقافي ونضج معرفي يمكِّنه من التمييز في اختياراته الاجتماعية والسياسية بالخصوص، ويؤهله للانخراط والتفاعل الإيجابي مع المتغيرات المتسارعة التي ينبغي قراءة تداعياتها بوعي واستنارة..
تقول د. فاطمة الصايغ الأستاذة بجامعة الإمارات: "سألتُ طلابي قبل فترة عن المصدر الذي يستقون منه المعلومات وهم يُعِدون مشروع التخرج، فأجابوا بأن هذه المعلومات مصدرها الإنترنت الذي هو وسيلة سهلة وجاهزة، حيث لا يتعبون أنفسهم في القراءة، وبضغطة زر يحصلون على المعلومات"، بمعنى أن الطلاب الذين من المفترض أن يقرأوا لا يقرأون، ويُعِدون الأبحاث عن طريق الإنترنت. وأضافت أنها في الواقع أزمة على المستوى العالمي، حيث أشارت إلى أن الأمريكان الذين يقرأون في محطات المترو ووسائل المواصلات والأماكن العامة لا يقرأون في هذه الأيام سوى المواد الرومانسية والمجلات الفنية والأشياء الخفيفة؛ أما القراءة الجادة والكتب الثقافية والنظرية والفكرية، فلا يطالعها سوى قلة قليلة، ومن هنا فإن أهمية الكتاب تراجعت، وسوف تتراجع أكثر في المستقبل لأن القراء قلوا. وأوضحت الدكتورة فاطمة الصايغ أن أهمية الكتاب الإلكتروني تزداد، حيث يمكن اقتناء أمهات الكتب إلكترونيًا بدلًا من الذهاب إلى المكتبة، إضافةً إلى أن سعره أقل، كما أن الناس تبحث عن السهولة والبساطة والرخص، مشيرةً إلى أن مشروع الكتاب الإلكتروني الموجود الآن في الغرب لا بد من تعميمه في بلادنا.
ويقول الكاتب زياد عبد الرحيم إن عزوف الناس عن القراءة يعود إلى عدة أسباب منها انشغال الناس بمتطلبات الحياة اليومية حيث لا يجدون الوقت الكافي للقراءة، كما أن ثورة المعلومات الممثلة بالإنترنت وأجهزة الاستقبال الفضائي والتي جعلت العالم قرية صغيرة ساهمت مساهمة كبيرة في إبعاد الناس عن الكتاب. وأضاف عبد الرحيم آن التطور الهائل في صناعة السينما أدى إلى قتل الرغبة في القراءة، والاستعاضة عنها بالمشاهدة الحسية والبصرية والصوتية. وأوضح أن ما أسماه (الكسل الذهني) الذي أصاب القارئ العربي بشكل عام، والإحباطات السياسية، والمصاعب الاقتصادية التي يعاني منها هذا المواطن جعلت من الكتاب الذي ينبغي أن يبقى سيد المعرفة يتنازل عن سيادته، ويصبح من سقط المتاع.
وإذا كان د. ثروت صموئيل قد تساءل: "هل أصبحنا أمة لا تقرأ؟".... فإننا نتساءل نحن أيضًا: "هل بتنا نعيش زمن التجهيل الحقيقي والأمية الثقافية بعد أن سيطرت إمبراطوريات التسويق السلعي وأماكن الترفيه سيطرة تامة على دور المكتبات ومنابر الثقافة والوعي والمعرفة؟"
لا بد من التغلب على هذه الأمور السابق عرضها بإشاعة الحراك الثقافي الحقيقي بين أبناء المجتمع ككل، ووضع أسعار مناسبة للكتاب حتى يتم اقتناؤه والاستفادة منه على مدى زمني طويل، وذلك حتى يبقى الكتاب سيد المعرفة.
|
|