ملوك إسرائيل في العهد القديم (21)
(10) "الملك أخآب"
الملك الذي باع نفسه لعمل الشر |
الدكتور القس ﭽورﭺ شاكر
نائب رئيس الطائفة الإنجيلية بمصر |
الملك أخآب ملك من طراز غريب يجمع في شخصيته المتناقضات، فلقد كان واحدًا من أقوى الملوك، وفي نفس الوقت كان من أضعف ملوك إسرائيل، كما كان يتسم بصفات رائعة، فلقد كان ملكًا مقتدرًا وناجحًا.
نجح نجاحًا باهرًا، ومع ذلك لخص الوحي المقدس حياته في عبارة مليئة بالعار والخزي، فمكتوب عنه: "ولم يكن كأخآب الذي باع نفسه لعمل الشر في عيني الرب، الذي أغوته إيزابل امرأته" (1مل21: 25).
نعم! لقد باع نفسه عامدًا متعمدًا لفعل الشر... كان هذا الملك هو الأكثر شرًا بين ملوك إسرائيل، فلقد كسر الوصيتين الأولى والثانية، بتعليم إسرائيل عبادة البعل بدلًا من الرب وتأسيس عبادة الأصنام.
إن هذا الملك قد ازداد في الشر والوثنية عن كل الملوك الذين قبله.
"وأخآب بن عُمري ملك على إسرائيل في السنة الثامنة والثلاثين لآسا ملك يهوذا، وملك أخآب بن عُمري على إسرائيل في السامرة اثنتين وعشرين سنة" (1 مل 16: 29).
وقصة الملك أخآب حافلة بالدروس الروحية الثمينة وزاخرة بالقيم الإيمانية الجميلة التي أذكر منها الآتي:
أولًا: أهمية شريك الحياة
نعم! الزواج الفاشل هو السبب الرئيسي الذي يقف وراء الحياة الفاشلة، وهذا ما حدث مع الملك أخآب، فلقد تزوج من إيزابل الفينيقية ابنة ملك صور... كانت متغطرسة وعدوانية وعديمة المبادئ، وكانت هي أحد الأسرار والأسباب الرئيسية لدماره.
نعم! وما إيزابل في الواقع إلا الشر مجسمًا، أو المرأة التي تلقت تدريبًا خاصًا على يدي الشيطان، وإن شئت فقل إنها هي التي كانت تعلِّم الشيطان خطايا.
ومع أن أخآب ورث الكثير عن الملك "عُمري" أبيه إلا أننا لا ينبغي أن ننسى إنه كان يحمل في كثير من الأحيان القوة والقدرة والشجاعة الوطنية، ولو أنه وجد زوجة تغذي وتنمي وتقوي القيم والمبادئ عنده لتغير تاريخه جملةً وتفصيلًا ولتغير ما جاء في التقرير الإلهي عنه أنه "باع نفسه لعمل الشر". كما أن إيزابل تُعدُّ على رأس قائمة النساء اللواتي قتلن وذبحن وأرقن الدماء أنهارًا في كل مكان، وما أبشع وأشنع ما فعلت من هذا القبيل في طول البلاد وعرضها. وقد عبَّر إيليا النبي أمام الله عما فعلته إيزابل بشرها بأن جعلت عبيدها يتركونه عندما قال: "لأن بني إسرائيل قد تركوا عهدك، ونقضوا مذابحك، وقتلوا أنبياءك بالسيف، فبقيت أنا وحدي، وهم يطلبون نفسي ليأخذوها" (1مل19: 10).
ومع أن الكثير من لغة التشاؤم ونغمة الإحباط واليأس والفشل قد أضحى حقيقة... لكن إيليا لم يكن وحده بل كانت هناك سبعة آلاف ركبة لم تجثُ للبعل. ومع هذا يمكننا القول بأن ما وصلت إليه الأمة من خراب ودمار يشهد بما فعلت هذه المرأة الشريرة التي تُدعى إيزابل زوجة أخآب، ولكن السؤال الذي يفرض نفسه هو: أين الله من كل هذه الأحداث والمآسي والاضطهادات؟ هل يمكن أن يترك الله الشر دون تحذير أو تنبيه أو مقاومة؟ لقد أسمع الله إيزابل والشعب أكثر من صوت من هذا القبيل... ولعل أول هذه الأصوات وأقواها وأهمها كان صوت إيليا النبي الذي ظهر فجأة في طول البلاد وعرضها كالنور الساطع في الليلة المظلمة، ولا شك أن الله قد أعده لمثل هذه اللحظة الحاسمة ليقف بكل شجاعة وبسالة وضراوة في وجه الوثنية والشر والطغيان والفساد، ولتعلم إيزابل الشريرة أنه في كل عصور التاريخ من المستحيل أن يترك الله نفسه بلا شاهد.
إلا أننا في النهاية نرى الخاتمة المروِّعة لإيزابل، فقد أكلتها الكلاب، لم تبق من جثتها إلا الجمجمة والرجلين وكفي اليدين، لتتحول هذه البقايا إلى معالم خالدة على الطريق لكل مَنْ يريد أن يرى ويتعلم كيف ينتهي الشرير وشره، فمكتوب: "الشر يميت الشرير" و"أجرة الخطية هي موت".
ثانيًا: الأحمق لا يرى خطاياه
إن الخطية كانت تحجب الحقيقة عن عيني وقلب الملك أخآب حتى صنعت منه إنسانًا يتسم بالحماقة، لذا كان يرى الذنب كل الذنب في إيليا، فعندما رآه قال له: "أأنت هو مكدر إسرائيل؟" (1مل18: 17).
ولم يستطع أن يرى خطية واحدة في نفسه أو في الشعب الذي ترك الله واتجه إلى عبادة البعل وعشتاروث التي كانت سر النكبة والكارثة والمجاعة!!... ولم يَخَفْ إيليا من أن يضع الصورة الصحيحة للمأساة كلها إذ قال لأخآب: "لم أكدر إسرائيل، بل أنت وبيت أبيك بترككم وصايا الرب وبسيرك وراء البعليم" (1مل18: 18).
وقاد إيليا الجميع إلى المعركة الفاصلة على جبل الكرمل... وكان لابد من أن تدرك الأمة كلها مَنْ هو الإله الحقيقي وحده، ومَنْ هي الآلهة الزائفة الباطلة الكاذبة. وقف إيليا وحده في مواجهة ثمانمائة وخمسين نبيًا للبعل وعشتاروث، ولم تكن الكثرة دليلًا على الحق أو الصواب الذي يزعمونه. وأعطاهم إيليا الفرصة الكاملة أولًا دون أن يستطيع صراخهم أو جراحهم التي جعلت الدماء تسيل من أجسادهم بسيوفهم... لم تستطيع أن تعينهم في شيء، وسخر إيليا منهم سخرية الواثق بإلهه، وكانت سخريته لاذعة في قوله: "ادعوا بصوتٍ عالٍ لأنه إله! لعله مستغرقٌ أو في خلوةٍ أو في سفرٍ! أو لعلهُ نائمٌ فيتنبه!" (1مل18: 27).
وإذ عجز الأدعياء عن أن يثبتوا إدعاءهم، تقدم إيليا وقدم هو الذبيحة، وأبصر الشعب كله النار المشتعلة التي أتت من السماء لتلتهم كل شيء، وهكذا كل حين يشجع الله أبناءه. وعندما رأى الشعب المعجزة بلغ بهم الانفعال ذروته وسجدوا أمام الله، واشتركوا مع إيليا في ذبح أنبياء البعل، وهنا عرف الجميع مَنْ هو الإله الحقيقي، ومَنْ هي الآلهة الباطلة!
ثالثًا: مَنْ يشرب من مياه العالم يزداد عطشًا
طمع الملك أخآب في كرم نابوت اليزرعيلي لكي يحوله إلى بستان وعرض عليه أن يعطيه ثمنًا أو كرمًا آخر، وكان يمكن لنابوت أن يرضى لولا أن الشريعة تمنع ذلك، حيث إنه لا يجوز لإنسان أن يتصرف في ميراث آبائه. ولما رفض نابوت عرض أخآب، رجع إلى بيته مهمومًا، وامتنع عن الطعام ونام متضايقًا، وإذا بإيزابل تأتي إليه وتستفسر عن سر حزنه، ثم تسخر منه لأنه وهو ملك لا يستطيع أن يزيل عقبة كهذه. وأمكن للملكة عن طريق الشر وتأليف تمثيلية هزلية كاذبة أن تحصل على الكرم، وأعتقد أن أخآب أحس بالكثير من الخجل وهو في طريقه إلى الكرم لرؤيته فقد اكتشف طمعه وكذبه وظلمه... كان أخآب يملك أعظم القصور والبساتين، ولكنها النفس البشرية التي لا تشبع ولا ترتوي، فمياه العالم مالحة، مياه شاربها يزداد عطشًا، وهذا ما قاله الرب يسوع للسامرية: "كل من يشرب من هذا الماء يعطش أيضًا. ولكن من يشرب من الماء الذي أعطيه أنا فلن يعطش إلى الأبد" (يو 4: 13).
لم يتمتع الملك أخآب بكرم نابوت كما كان يشتهي لأنه في قلب الكرم سمع مصيره المفجع ومصير بيته فمكتوب: "ثم كلمه (أيليا كلم أخاب) قائلا: هكذا قال الرب: في المكان الذي لحست فيه الكلاب دم نابوت تلحس الكلاب دمك أنت أيضا." فقال أخآب لإيليا: "هل وجدتني يا عدوي؟" فقال: قد وجدتك لأنك قد بعت نفسك لعمل الشر في عيني الرب. هأنذا أجلب عليك شرًا، وأبيد نسلك، وأقطع لأخآب كل بائل بحائط ومحجوز ومطلق في إسرائيل." وتكلم الرب عن إيزابل أيضا قائلاً: "إن الكلاب تأكل إيزابل." (1مل21: 17-24).
رابعًا: الله ينتظر عودة وتوبة كل إنسان
إن معاملات الله مع الملك أخآب توضح عدم رغبة الله في أن يهلك أي إنسان، فكان الله يقدم لأخآب تحذيرات يومية أذكر منها:
أ. عن طريق الجدوب والقحط غير العادي، فمكتوب: "حي هو الرب إله إسرائيل الذي وقفت أمامه، إنه لا يكون طل ولا مطر في هذه السنين إلا عند قولي." (1مل17: 1). (انظر يع 5: 17، 18).
ب. عن طريق أكثر المعجزات إبهارًا ولفتًا للأنظار، عندما قدم إيليا المحرقة وصلى مكتوب: "فسقطت نار الرب وأكلت المحرقة والحطب والحجارة والتراب، ولحست المياه التي في القناة. فلما رأى جميع الشعب ذلك سقطوا على وجوههم وقالوا: الرب هو الله! الرب هو الله!" (1مل18: 36-39).
ج. بالتوبيخ الصارم كما جاء في (1مل21: 19).
د. وبالنجاح العسكري المضاعف عن العادي والذي بدأ عندما هزم أخآب بنهدد، فنقرأ في (1مل20: 13) "وإذا بنبي تقدم إلى أخآب ملك إسرائيل وقال: "هكذا قال الرب: هل رأيت كل هذا الجمهور العظيم؟ هأنذا أدفعه ليدك اليوم، فتعلم أني أنا الرب."
خامسًا: النهاية المريرة تنتظر الشخصية الشريرة
بالرغم من أن أخآب كان قائدًا عسكريًا عظيمًا، وحصَّن مدن إسرائيل، وتحدى الجيش السوري، وكبَّده خسائر فادحة، فإنه خُدع عن طريق الأنبياء الكذبة. وقد حذَّره النبي الصادق ميخا، لكنه قَبِلَ التحدي ضد سوريا، وانضم إليه يهوشافاط ملك يهوذا، وكانت هذه أول مرة منذ أيام داود تتحد فيها إسرائيل ويهوذا ضد عدو مشترك. ومع أن أخآب كان قد سبق وأنقذ حياة بنهدد إلا أنه قُتل في هذه المعركة على يد ملك سوريا، إذ كان قد دخل أخآب المعركة متنكرًا، إلا أن سهمًا أصابه بشكل عشوائي وتسبب في إحداث جرح قاتل. وبصلابة البطل، بقي في مركبته، ومات بسبب جرحه عند غروب الشمس كما تنبأ النبي، ولحست الكلاب دمه، ودُفن في السامرة، وهذه هي النهاية المنطقية لشخص عاش حياته في الخطية.
عبرة في عبارة: "لا تسمح لأشواك الحياة... بأن تباعد بينك وبين أشواق الله."
|
|