الغفران... طريق الشفاء |
د. فيولا موريس |
أراد الله في خطته السابقة للبشرية أن يصنع لأدام معينًا نظيره (حواء) ليضع للخليقة شكلًا من العلاقات المتشابكة وليعكس لنا كينونته (الثالوث). لذلك فإن العلاقات هي جوهر وقلب كينونتنا حيث إنها تؤدي إلى النجاح في إشباع احتياجاتنا الجسدية والنفسية والروحية. ولكن بسبب عجزنا عن تتميم خطة الله فقد وجدنا في أحيان كثيرة أن هذه العلاقات تسبب لنا جروحًا وآلامًا عميقة، وذلك لما نتعرض له من إساءات من الآخرين. ولذا فإن أحد أصعب الأمور التي نواجهها أثناء مسيرتنا في الحياة هو كيفية التعامل مع هذه الإساءات، حيث إنها تخلف في داخلنا مشاعر عميقة من الظلم والقهر والقسوة وبالتالي تؤدي إلى إحساسنا بالمرارة والنفور، كما تجعلنا نقع في صراع عنيف بين هذه المشاعر وبين تتميم خطة الله ووصيته التي تركها لنا وهي الغفران لأنه من أخطر التحديات التي نتعرض لها، فهو ليس أمرًا سهلًا، وقد ترجع صعوبته إلى عدة أسباب من أهمها:
- قسوة الإساءة التي وقعت على الشخص، فهي تسبب له الإحساس بالإهانة والظلم وقد تؤدي إلى أن يدفع ثمن خطأ لم يرتكبه. وقد ذكر لنا الكتاب المقدس ما وقع على يوسف من ظلم بين دفع ثمنه سنوات طويلة من الألم.
- وقد يزيد الأمر سوءًا حينما يتعرض الشخص لتكرار الخطأ بل والتمادي فيه من الشخص المسيء وخاصةً إذا كان قريبًا منه، وذلك مثل الخيانة الزوجية.
- وما يضاعف من الإحساس به هو عدم اعتراف المخطئ بالإساءة، فيشعر الشخص بالافتراء والقساوة.
- كما يرى الشخص أن الله يتمهل على المخطئ، بل وفي أحيان كثيرة يمنحه حياة مملوءة بالخير والبركة. وقد عبَّر آساف عن ذلك فوصف مشاعره نحو هؤلاء المسيئين في مزموره الشهير 73.
وقد يظن البعض في أحيان كثيرة بأنه قد غفر وذلك بأن يتناسى الخطأ والإساءة مستخدمًا حيلة دفاعية تُعرف بـ (الإنكار) ليتمكن من التعايش والتكيف مع الحياة، ولكنه في الواقع يحمل في داخله بركانًا من الغضب والمرارة وعدم التسامح، ولذا فهناك اختلاف بين النسيان والغفران.
الآثار النفسية والروحية لعدم الغفران
أولًا: الآثار النفسية
من أهم أعراض عدم الغفران إصابة الشخص بالقلق، إذ تنتابه مشاعر متناقضة بين الإحساس بالحب والكره في الآن نفسه، وخاصةً حينما يكون المسيء شخصًا قريبًا منه مثل أحد الوالدين أو الأبناء أو الزوج. ومن علامات القلق التوتر والحزن والضيق وعدم الراحة، كما تصاحب القلق مشاعر خوف قوية، حيث إن القلق والخوف وجهان لعملة واحدة. وقد يصل في نهاية الأمر إلى الاكتئاب فيفقد الشخص فرحه وسلامه كما يفقد لذة الحياة، وقد يظهر ذلك في شكل كوابيس وأحلام مزعجة، بالإضافة إلى أن مشاعر المرارة والكراهية المُختَزَنة تجاه المسيء تظهر في شكل أمراض نفسية جسدية كالميل للقيء أو الصداع الشديد أو آلام المعدة والقولون أو الشعور بتكسير في العظام إلى آخر هذه الإعراض الجسدية.
إن احتفاظ الشخص بمشاعر الكراهية وعدم الغفران يؤدي إلى وجود حاجز نفسي بينه وبين المسيء إليه مما يملأه بأفكار انتقام. هذا وقد تمتد مشاعر الكراهية لتصل إلى أن يكره الشخص نفسه لعجزه عن مواجهة هذه المشاعر، حيث يستخدم ميكانيزم يُعرف باسم (الامتصاص).
ثانيًا: الآثار الروحية
إن مشاعر المرارة وعدم الغفران هي علامة من علامات نقص المحبة وهو ما يدل على أن الشخص لم يثبت في محبة المسيح "الله محبة ومن يثبت في المحبة يثبت في الله والله فيه" (1يو4: 16)، وهذه المشاعر تعطي إبليس مكانًا في حياة الشخص مما يجعله تحت نيره وبالتالي يظل أسيرًا لخطايا الكبرياء ومحبة الذات Ego والإدانة، وهكذا يكون منحصرًا في دوائر الظلمة (مَنْ قال إنه في النور وهو يبغض أخاه فهو إلى الآن في الظلمة (1يو2: 9). إن عدم الغفران يُفقد الشخص رؤيته وبصيرته الروحية فيعجز عن أن يتمم مشيئة الله وخطته في حياته، لكن إطلاق الغفران يساعد الشخص المجروح على أن يحرر المسيء إليه من الإطار الذي وضعه فيه، وكذلك يساعد الشخص نفسه على أن ينطلق من انحصار تفكيره في دائرة المرارة والحزن إلى دائرة الحرية والشفاء.
خطوات على طريق الشفاء
- لكي تتحرر من قيد المرارة وتضع نفسك على طريق الشفاء، لا بد أن تعيد تفكيرك بطريقة إيجابية فتلتمس للمسيء العذر "لا تشاكلوا هذا الدهر بل تغيروا عن شكلكم بتجديد أذهانكم" (رو12: 2).
- وتذكر أن الغفران هو قرار إرادي وليس مجرد مشاعر، وأنك إذا تجاهلت هذا الأمر تكون قد كسرت أهم وصية وبالتالي انفصلت عن الشركة مع الله.
- اطلب معونة من الروح القدس، فلن تستطيع الغفران بمفردك أو بقواك النفسية بل بالالتصاق بالمسيح وبكلمته المشجعة وبوعوده الصادقة الأمينة. وثق أن خروجه يقين كالفجر وأنه سيشرق بنوره عليك ويحول الكراهية والمرارة إلى حب وفرح والظلمة إلى نور.
- صَلِّ من أجل نفسك ومن أجل المخطئ في حقك لكي يحرره الرب من سلطان الظلمة، وثق في محبة المسيح، لك لأنه من خلال ألمك يشكلك ويغيرك ليعيد هويتك الأصلية لتكون على صورته الكاملة.
- وأخيرًا تذكَّر أن الرب قدم لنا في الصليب أعظم مثال للغفران حيث صفح عن خطايانا وآثامنا ليمنحنا القدرة على الغفران للآخرين. لقد اجتاز المسيح في درب الصليب ليفتح لنا طريقًا للتبرر والشفاء، كما قام منتصرًا على الموت ليمنحنا الحرية والحياة.
|
|